فصل: تفسير الآية رقم (38):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل



.تفسير الآية رقم (36):

القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} [36].
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ} نزلت فيمن ينفق على حرب النبي صلى الله عليه وسلم من المشركين، وبيان سوء مغبة هذا الإنفاق، وقد ذهب الضحاك إلى أنه عني بها المطعمون منهم يوم بدر، وكانوا اثني عشر رجلاً من قريش، يطعم كل واحد منهم، كل يوم عشرة جزر.
وروي عن مجاهد وسعيد بن جبير وقتادة وغيرهم أنها نزلت في أبي سفيان، ونفقته الأموال في أُحُد لقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
روى محمد بن إسحاق عن الزهري أنه لما أصيبت قريش يوم بدر ورجع فلهم إلى مكة، ورجع أبو سفيان بعيره، مشى رجال من قريش أصيب آباؤهم وأبناؤهم وإخوانهم ببدر، فكلموا أبا سفيان، ومن كانت له في تلك العير تجارة، فقالوا: يا معشر قريش إن محمداً قد وتركم، وقتل خياركم، فأعينونا بهذا المال على حربه، لعلنا أن ندرك منه ثأراً بمن أصيب منا، ففعلوا. قال: ففيهم- كما ذكر عن ابن عباس- أنزلت الآية. ولا يخفى شمول الآية لجميع ذلك.
واللام في ليصدوا، لام الصيرورة ويصح أن تكون للتعليل، لأن غرضهم الصدر عما هو سبيل الله بحسب الواقع، وإن لم يكن كذلك في اعتقادهم.
وسبيل الله طريقه وهو دينه، واتباع رسوله، ولما تضمن الموصول معنى الشرط، والخبر بمنزلة الجزاء، وهو: {فَسَيُنفِقُونَهَا} اقترن بالفاء {ينفقون} إما حال، أو بدل من: {كفروا} وفي تضمن الجزاء من معنى الإعلام والإخبار، التوبيخ على الإنفاق، والإنكار عليه، كما في قوله:
{وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّه}.
وفي تكرير الإنفاق في شبه الشرط والجزاء، الدلالة على كمال سوء الإنفاق، كما في قوله: {إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ}. وقولهم: من أدرك الصَّمَّان فقد أدرك المرعى، والمعنى: الذين ينفقون أموالهم لإطفاء نور الله، والصدّ عن اتباع رسوله صلى الله عليه وسلم، سيعلمون عن قريب سوء مغبة ذلك الإنفاق، وانقلابه إلى أشد الخسران، من القتل والأسر في الدنيا، والنكال في العقبى: قال المتنبي:
إذا الجودُ لم يُرزق خلاصاً من الأذى ** فلا الحمد مكسوباً ولا المالُ باقياً

والأذى هنا المنّ وفي جعل ذات الأموال تصير: {حسرة} أي: ندماً وتأسفاً- وهي عاقبة أمرها- مبالغة.
والمراد بالغلبة في قوله: {ثم يغلبون} الغلبة التي استقر عليها الأمر، وإن كانت الحرب بينهم سجالاً قبل ذلك.
فإن قلت: غلبة المسلمين متقدمة على تحسرهم، بالزمان، فلم أخرت بالذكر؟
قلت: المراد أنهم يغلبون في مواطن أخر بعد ذلك. كذا في العناية.
تنبيه:
قال بعضهم ثمرة الآية خطر المعاونة على معصية الله تعالى، وأن الإنفاق في ذلك معصية، فيدخل في هذا معاونة الظلمة على حركاتهم في البغي والظلم، وكذلك بيع السلاح والكراع، ممن يستعين بذلك على حرب المسلمين.
{وَالَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ}.

.تفسير الآية رقم (37):

القول في تأويل قوله تعالى: {لِيَمِيزَ اللّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَىَ بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [37].
{لِيَمِيزَ اللّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} أي: الكافر من المؤمن، أو الفساد من الصلاح. واللام متعلقة بـ: {يحشرون} أو: {يغلبون}، أو ما أنفقه المشركون في عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، مما أنفقه المسلمون في نصرته، واللام متعلقة بقوله: {ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً} {وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَىَ بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ}
أي: فيجمعه ويضم بعضه إلى بعض، حتى يتراكبوا لفرط ازدحامهم، أو يضم إلى الكافر ما أنفقه، ليزيد به عذابه كمال الكانزين.
{أُوْلَئِكَ} إشارة إلى الخبيث، لأنه مقدر بالفريق الخبيث، أو إلى المنفقين: {هُمُ الْخَاسِرُونَ} لخسرانهم أنفسهم وأموالهم.

.تفسير الآية رقم (38):

القول في تأويل قوله تعالى: {قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُواْ فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينِ} [38].
{قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ} يعني أبا سفيان وأصحابه، فالتعريف فيه للعهد أو للجنس، فيدخل هؤلاء دخولاً أولياً {إِن يَنتَهُواْ} أي: عن الكفر وقتال النبي صلى الله عليه وسلم: {يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ} أي: من الكفر والمعاصي {وَإِنْ يَعُودُواْ} إلى قتاله: {فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينِ} أي: الذين تحزبوا على الأنبياء بالتدمير، أو الذين حاق بهم مكرهم يوم بدر.
وقوله: {فقد مضت} إلخ دليل الجزاء، والتقدير: انتقمنا منهم فقد مضت الخ.
تنبيه:
استدل بالآية على أن الإسلام يجبّ ما قبله، كما جاء في الحديث وأن الكافر إذا أسلم، لا يخاطب بقضاء ما فاته من صلاة أو زكاة أو صوم أو إتلاف مال أو نفس.
وأجرى المالكية ذلك كله في المرتد إذا تاب، لعموم الآية، واستدلوا بها على إسقاط ما على الذمي من جزية وجبي عليه قبل إسلامه.
أخرج ابن أبي حاتم من طريق ابن وهب عن مالك: لا يؤاخذ كافر بشيء صنعه في كفره إذا أسلم، ولم يعد طلاقهم شيئاً، لأن الله تعالى قال: {إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ} كذا في الإكليل.

.تفسير الآية رقم (39):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه فَإِنِ انتَهَوْاْ فَإِنَّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [39].
{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ} أي: شرك أو إضلال لغيرهم، وفتن منهم للمؤمنين عن دينهم {وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه} أي: يخلص التوحيد لله، فلا يعبد غيره {فَإِنِ انتَهَوْاْ} أي: عن الكفر والمعاصي ظاهراً: {فَإِنَّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ} أي: ببواطنهم {بَصِيرٌ} أي: فيجازيهم، وعليه حسابهم، فكفوا عنهم، وإن لم تعلموا ببواطنهم. كقوله تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} الآية، وفي الآية الأخرى: {فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ}.
وفي الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله عز وجل».
وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأسامة: لما علا ذلك الرجل بالسيف، فقال: لا إله إلا الله، فضربه فقتله، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لأسامة: «أقتلته بعد ما قال لا إله إلا الله، فكيف نصنع بلا إله إلا الله يوم القيامة؟» فقال: يا رسول الله إنما قالها تعوّذا، فقال: «هلا شققت عن قلبه»؟ وجعل يقول ويكرر عليه: «من لك بلا إله إلا الله يوم القيامة»؟ قال أسامة: حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت إلا يومئذ.

.تفسير الآية رقم (40):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَوْلاَكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} [40].
{وَإِن تَوَلَّوْاْ} أي: أعرضوا عن الإيمان ولم ينتهوا {فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَوْلاَكُمْ} أي: ناصركم ومعينكم، فثقوا بولايته ونصرته {نِعْمَ الْمَوْلَى} فلا يضيع من تولاه {وَنِعْمَ النَّصِيرُ} فلا يغلب من نصره.
ثم بين تعالى مصرف ما أحله لهذه الأمة وخصها به، وهو الغنائم، بقوله سبحانه:

.تفسير الآية رقم (41):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِن كُنتُمْ آمَنتُمْ بِاللّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [41].
{وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ} أي: قلّ أو كثُر من الكفار {فَأَنَّ لِلّهِ} أي: الذي منه النصر المتفرع عليه الغنيمة {خُمُسَهُ} شكراً له على نصره وإعطائه الغنيمة {وَلِلرَّسُولِ} أي: الذي هو الأصل في أسباب النصر {وَلِذِي الْقُرْبَى} وهم بنو هاشم والمطلب {وَالْيَتَامَى} أي: من مات آباؤهم ولم يبلغوا، لأنهم ضعفاء، {وَالْمَسَاكِينِ} لأنهم أيضاً ضعفاء كاليتامى {وَابْنِ السَّبِيلِ} وهو المسافر الذي قطع عليه الطريق ويريد الرجوع إلى بلده، ولا يجد ما يتبلغ بهم.
وفي هذه الآية مسائل:
الأولى: قال الفقهاء: الغنيمة المال المأخوذ من الكفار بإيجاف الخيل والركاب، أي: ما ظهر عليه المسلمون بالقتال. وهل هي والفيء والنفل شيء واحد أو لا؟ وسنفصله في آخر المسائل.
الثانية: ما في: {أنما} بمعنى الذي والعائد محذوف، وكان حقها، على أصولهم، أن تكتب مفصولة.
قال الشهاب: وقد أجيز في ما هذه أن تكون شرطية.
الثالثة: قوله تعالى: {مِنْ شَيءٍ}، بيان للموصول، محله النصب، على أنه حال من عائد الموصول، قصد به الإعتناء بشأن الغنيمة، وألا يشذّ عنها شيء، أي: ما غنمتموه كائناً ما كان يقع عليه اسم الشيء، حتى الخيط والمخيط.
الرابعة: الخمس بضم الميم، وسكونها، لغتان قد قرئ بهما.
الخامسة: أفادت الآية أن الواجب في المغنم تخميسه، وصرف الخمس إلى من ذكره الله تعالى، وقسمة الباقي بين الغانمين بالعدل، للراجل سهم، وللفارس ذي الفرس العربيّ ثلاثة أسهم، سهم له وسهمان لفرسه.
هكذا قسم النبي صلى الله عليه وسلم عام خيبر.
ومن الفقهاء من يقول: للفارس سهمان.
والأول هو الذي دلت عليه السنة الصحيحة، ولأن الفرس يحتاج إلى مؤونة نفسه وسائسه، ومنفعة الفارس به أكثر من منفعة رجلين.
ومنهم من يقول: يسوى بين الفرس العربيّ والهجين في هذا، الهجين يسمى البرذون والأكديش.
ويجب قسمتها بينهم بالعدل، فلا يحابي أحد، لا لرياسته ولا لنسبه ولا لفضله، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه يقسمونها.
وفي صحيح البخاري أن سعد بن أبي وقاص رأى أن له فضلاً على من دونه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم؟» وفي مسند أحمد أن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: ثكلتك أمك ابن أم سعد وهل ترزقون وتنصرون إلا بضعفائكم. كذا في السياسة الشرعية لابن تيمية.
في زاد المعاد لابن القيم: كان صلى الله عليه وسلم إذا ظفر بعدوه، أمر منادياً فجمع الغنائم كلها، فبدأ بالأسلاب فأعطاها لأهلها، ثم أخرج خمس الباقي فوضعه حيث أراه الله وأمره به من مصالح الإسلام، ثم يرضخ من الباقي لمن لا سهم له من النساء والصبيان والعبيد، ثم قسم الباقي بالسوية بين الجيش: للفارس ثلاثة أسهم، وللراجل سهم، وكان ينفل من صلب الغنيمة بحسب ما يراه من المصلحة.
وقيل: بل كان النفل من الخمس، وجمع لسلمة بن الأكوع، في بعض مغازيه، بين سهم الراجل والفارس، فأعطاه خمسة أسهم، لعظم غنائه في تلك الغزوة.
قال ابن تيمية: وما زالت الغنائم تقسم بين الغانمين في دولة بني أمية وبني العباس، لما كان المسلمون يغزون الروم والترك والبربر.
السادسة: ذهب الجمهور إليه أن ذكر الله تعالى في قوله: {فَأَنَّ للّه} للتعظيم، أي: تعظيم الرسول، كما في قوله تعالى: {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوه}، أو لبيان أنه لابد في الخمسة من إخلاصها لله تعالى، وأن المراد قسمة الخمس على المعطوفين عليه، وتمسك بعضهم بظاهر ذلك، فأوجب سهماً سادساً لله تعالى، يصرف في وجوه الخير، أو يؤخذ للكعبة قال: لأن كلام الحكيم لا يُعرّى عن الفائدة، ولأنه ثبت اختصاصه في آية الصدقات في قوله تعالى: {وَفِي سَبِيلِ اللَّه}، فكذا هنا.
وهذا مروي عن أبي العالية، والربيع والقاسم وأسباطه ويؤيد ما للجمهور، ما رواه البيهقي بإسناد صحيح عن عبد الله بن شقيق عن رجل قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم، وهو بوادي القرى، وهو معترض فرساً، فقلت: يا رسول الله! ما تقول في الغنيمة؟ فقال: «لله خمسها وأربعة أخماسها للجيش».
قلت: فما أحد أولى به من أحد؟ قال، «لا، ولا السهم تستخرجه من جيبك، ليس أنت أحق به من أخيك المسلم». ومن لطائف الحسن أنه أوصى بالخمس من ماله وقال: ألا أرضى من مالي بما رضي الله لنفسه؟
السابعة: خمس النبي صلى الله عليه وسلم الذي جعله الله له، كان أمره في حياته مفوضاً إليه، يتصرف فيه بما شاء، ويرده في أمته كيف شاء.
روى الإمام أحمد أن أبا الدرداء قال لعبادة بن الصامت: يا عبادة! كلمات رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة كذا وكذا في شأن الأخماس؟ فقال عبادة: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بهم في غزوهم إلى بعير من المقسم، فلما سلم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتناول وبرة بين أنملتيه فقال: «إن هذا من غنائمكم، وإنه ليس لي فيها إلا نصيبي معكم إلا الخمس، والخمس مردود عليكم، فأدوا الخيط والمخيط، وأكبر من ذلك وأصغر، ولا تغلوا فإن الغلول نار وعار على أصحابه في الدنيا والآخرة، وجاهدوا الناس، في الله تبارك وتعالى، القريب والبعيد، ولا تبالوا في الله لومة لائم، وأقيموا حدود الله في الحضر والسفر، وجاهدوا في سبيل الله، فإن الجهاد باب من أبواب الجنة، ينجي الله تبارك وتعالى به من الغم والهم».
قال ابن كثير: هذا حديث حسن عظيم.
وروى أبو داود والنسائي عن عَمْرو بن عَبَسة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بهم إلى بعير من المغنم، فلما سلم أخذ وبرة من جنب البعير ثم قال: «ولا يحل لي من غنائمكم مثل هذا إلا الخمس والخمس مردود عليكم»- واستدل به على أنه عليه الصلاة والسلام كان يصرفه لمصالح المسلمين.
وكان له صلى الله عليه وسلم من الغنائم شيء يصطفيه لنفسه، عبد أو أمة أو فرس أو سيف أو نحو ذلك، رواه أبو داود عن محمد بن سيرين والشعبي مرسلاً، وأحمد والترمذي عن ابن عباس.
وللعلماء فيما يصنع بخمسه صلى الله عليه وسلم من بعده مذاهب:
فمن قائل: يكون لمن يلي الأمر من بعده، قال ابن كثير: روي هذا عن أبي بكر وعلي وقتادة وجماعة. وجاء فيه حديث مرفوع.
ومن قائل: يصرف في مصالح المسلمين، قال الأعمش عن إبراهيم: كان أبو بكر وعمر يجعلان سهم النبي صلى الله عليه وسلم في الكراع والسلاح.
ومن قائل: بأنه يصرف لقرابته صلى الله عليه وسلم.
ومن قائل: بأنه مردود على بقية الأصناف: ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل. واختاره ابن جرير. وللمسألة حظ من النظر.
الثانية: أجمعوا على أن المراد بذوي القربى قرابته صلى الله عليه وسلم.
وذهب الجمهور إلى أن سهم ذوي القربى يصرف إلى بني هاشم وبني المطلب خاصة، لأن بني المطلب وازروا بني هاشم في الجاهلية، وفي أول الإسلام ودخلوا معهم في الشعب غضباً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وحماية له، مسلمهم طاعة لله ولرسوله، وكافرهم حمية للعشيرة، وأنفة وطاعة لأبي طالب عمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأما بنو عبد شمس وبنو نوفل، وإن كانوا ابني عمهم، لم يوافقوهم، بل حاربوهم ونابذوهم، ومالؤوا بطون قريش على حرب الرسول، ولهذا كان ذمهم أبو طالب في قصيدته بقوله منها:
جَزَى الله عنََّا عبد شمسٍ ونوفلاً ** عقوبة شّرٍ عاجلاً غير آجلِ

نوفل: هو ابن خويلد، كان من شياطين قريش، قتله على بن أبي طالب يوم بدر.
بميزانِ قسطٍ لا يخيسُ شعيرةً ** له شاهدٌ من نفسهِ غيرُ عائلِ

لا يخيس، من قولهم: خاس بالعهد إذا نقضه وأفسده. والعائل: الحائر.
لقد سَفِهَتْ أحلامُ قوم تبدَّلوا ** بني خلف قيضاً بنا والغياطل

قيضاً: عوضاً، والغياطل: بنو سهم.
ونحن الصَّميمُ من ذُؤابةِ هاشمٍ ** وآلِ قُصي في الخُطُوبِ الأوائِلِ

الصميم: الخالص من كل شيء، والذؤابة: الجماعة العالية، وأصله الخصلة من شعر الرأس.
وقال جبير بن مُطْعِم بن عدي بن نوفل: مشيت أنا وعثمان بن عفان، إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقلنا: أعطيت بني المطلب من خمس خيبر وتركتنا، ونحن وهم بمنزلة واحدة منك؟ فقال: «إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد».- رواه مسلم.
وفي رواية: أنهم لم يفارقوني في جاهلية ولا إسلام- أفاده ابن كثير-.
وقد روي عن ابن عباس وزين العابدين والباقر أنه يسوى في العطاء بين غنيّهم وفقيرهم، ذكورهم وإناثهم، لأن اسم القرابة يشملهم، ولأنهم عُوضوه لما حرمت عليهم الزكاة، وقياساً على المال المقر به لبني فلان.
واعتبر الشافعي أن سهمهم استحق بالقرابة، فأشبه الميراث. قال: فللذكر منه مثل حظ الأنثيين. انتهى.
وقال في العناية: إنه كان لعبد مناف- جد النبي صلى الله عليه وسلم- خمس بنين: هاشم وعبد شمس ونوفل والمطلب وأبو عَمْرو، وكلهم أعقبوا إلا أبا عَمْرو.
التاسعة: سهم اليتامى: قيل يخص به فقراؤهم، وقيل: يعم الأغنياء والفقراء، حكاه ابن كثير. والأظهر الثاني، والسرّ فيه ما قدمناه في سورة البقرة، فتذكره فإنه مهم.
العاشرة: المساكين: المحاويج الذين لا يجدون ما يسدُّ خلتهم ويكفيهم، وابن السبيل: ذكرنا معناه أولاً.
الحادية عشرة: قال بعضهم: يقتضي ما ذكر في هذه الآية وما في صدر هذه السورة من الأنفال، وما في سورة الحشر من قوله تعالى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِه}
أن القسمة في الأموال المظفور بها ثلاثية: نفل: وغنيمة، وفيء، ويتقضي إطلاق جعل النفل لله ولرسوله، والغنيمة لمن ذكر مخمسة، والفيء لمن ذكر بلا قيد. التخميس أن لكل من الثلاثة حكماً يخالف الآخر، وإن النفل ما يعطى لمن له من العناية والمقاتلة ما ليس لغيره، وفاء لعدته بذلك، قبل إحراز الغنيمة كالسلب، وإن الغنيمة ما أحرز بالقتال، سوى ما شرط التنفيل به، لأنه لا بخمس، والفيء ما أخذ من الكفار بغير قتال، كالأموال التي يصالحون عليها، والجزية والخراج، ونحو ذلك، وإلى هذا التفصيل ذهب الجمهور.
وذهب بعضهم إلى اتحاد الثلاثة، وعدم التفرقة بينها، وإلى دخولها في الغنيمة، وقال: ما أطلق في آية الأنفال، وآية الحشر، مقيد بآية الغنيمة هذه. وهذا هو مراد قول بعضهم: إنهما منسوختان بهذه، بمعنى أن إطلاقهما مقيد بهذه- والله أعلم-.
وقوله تعالى: {إِن كُنتُمْ آمَنتُمْ بِاللّهِ} أي: فاعملوا بما ذكر، وارضوا بهذه القمسة فالإيمان يوجب العمل بالعلم، والرضا بالحكم.
وقد جاء في الصحيحين من حديث عبد الله بن عباس، في حديث وفد عبد القيس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم: «وآمركم بأربع، وأنهاكم عن أربع: آمركم بالإيمان بالله». ثم قال: «هل تدرون ما الإيمان بالله؟ شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وأن تؤدوا الخمس من المغنم»، الحديث- فجعل أداء الخمس من جملة الإيمان، وقد بوّب البخاري على ذلك في باب الإيمان من صحيحه، فقال: باب أداء الخمس من الإيمان، وساق الحديث المذكور.
وقوله تعالى: {وَمَا أَنزَلْنَا} معطوف على: {باللَّه} أي: إن كنتم آمنتم بالله وبالمنزل {عَلَى عَبْدِنَا} أي: محمد عليه الصلاة والسلام، أي: من الآيات والملائكة والنصر، {يَوْمَ الْفُرْقَانِ} أي: يوم بدر، فإنه فرق فيه بين الحق والباطل. والفرقان بمعناه اللغوي، والإضافة فيه للعهد {يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ} يعني جمع المؤمنين وجمع الكافرين، فالتعريف للعهد، وكان التقاؤهما يوم الجمعة لسبع عشرة مضت من رمضان، والمؤمنون يومئذ ثلاثمائة وبضعة عشرة رجلاً، والمشركون ما بين الألف والتسعمائة، فهزم الله المشركين، وقتل منهم زيادة على سبعين، وأسر منهم مثل ذلك.
{وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} فيقدر على نصر القليل على الكثير، كما فعل بكم يوم بدر.